فصل: تفسير الآية رقم (83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (83):

{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}
قلت: الضمير في {ملئهم} يعود على فرعون، وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، أو باعتبار آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومُضَر، أو على الذرية، أو على {قومه} و{أن يفتنهم} بدل من فرعون، أو مفعول بخوف، وأفرد ضمير الفاعل، فلم يقل: أن يفتنوهم؛ للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسبب فرعون.
يقول الحق جل جلاله: {فما آمنَ لموسى} أي: صدّقه في أول مبعثه {إلا ذريةٌ}: إلا شباب وفتيان {من قومه}: من بني إسرائيل، آمنوا {على خوفٍ من فرعون وملئهم} أي: مع خوف من فرعون وقومه، أو على خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل؛ لأن الأكابر من بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفاً من فرعون، وهذا أرجح. خافوا {أن يفتنهم}: يعذبهم حتى يردهم عن دينهم، {وأن فرعونَ لعالٍ في الأرض}: لغالب فيها، {وإنه لَمِن المسرفين} في الكفر والعُتُوِّ حتى ادعى الربوبية، واسترقَّ أسباط الأنبياء.
الإشارة: أهل التصديق بأهل الخصوصية قليل في كل زمان، وإيذاء المنتسبين لهم سنة جارية في كل أوان، فكل زمان له فراعين يُؤذون المنتسبين، والعاقبة للمتقين.

.تفسير الآيات (84- 86):

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}
يقول الحق جل جلاله: {وقال موسى} لقومه، لمّا رأى خوفهم من فرعون: {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا} أي: ثِقُوا به واعتمِدُوا عليه، ولا تُبالوا بغيره، {إن كنتم مسلمين} مستسلمين لقضاء الله أو منقادين لأحكامه، قائمتين بطاعته، بعد تحصيل الإيمان به، وقال لهم ذلك مع علمه بإيمانهم وإسلامهم؛ إنهاضاً لهم وتحريضاً على الصبر، كما تقول: إن كنت رجلاً فافعل كذا.
{فقالوا على الله توكلنا} لأنّا مؤمنون مخلصون، {ربنا لا تجعلنا فتنةً} أي: موضع فتنة {للقوم الظالمين} أي: لا تسلطهم علينا فيفتنونا، {ونجنا برحمتك من القوم الكافرين} أي: من كيدهم، أو شؤم مشاهدتهم. وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي أن يتوكل أولاً لتُجاب دعوته؛ لأنه يتسبب في نجاح أمره، ثم يدعو. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التوكل هو ثمرة الإيمان ونتيجته، فكلما قوي الإيمان واشتدت أركانه قوي التوكل وظهرت أسراره. وكلما ضعف الإيمان ضعف التوكل، فالتَّوَغل في الأسباب نتيجة ضعف الإيمان، والتقلل منها نتيجة صحة التوكل والإيقان، والتوكل: أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك. قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96] والتوكل قد يوجد مع الأسباب، ومع التجريد أنفع، وقد تقدم الكلام عليه في آل عمران. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}
يقول الحق جل جلاله: {وأوحينا إلى موسى وأخيه ان تبَوءا} أي: اتخذا {لقومكما بمصر بيوتاً} للصلاة والعبادة، قيل: أراد الإسكندرية، وهي من مصر، {واجعلوا} أنتما وقومكما {بُيوتَكم} التي تسكنون فيها {قبلةً}: مصلّى ومساجد. ورُوي أن فرعون أخافهم، وهدم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة، فأمروا بإخفائها وجعلها في بيوتهم، وتكون متوجهة نحو القبلة يعني مكة وكان موسى يصلي إليها.
فإن قلت: لِمَ خُصَّ موسى وهارون بالخطاب في قوله: {أن تَبوءا} ثم خُوطب بها بنو إسرائيل في قوله: {واجعلوا بيوتكم}؟ فالجواب: أن التبوء واتخاذ المساجد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور، بخلاف جعل البيوت قبلة فمما ينبغي أن يفعله كل أحد.
{وأقيموا الصلاة} في تلك البيوت، أُمروا بذلك أول مرة لئلا تظهر عليهم الكفرة ويفتنونهم عن دينهم، {وبشَّر المؤمنين} بالنصر والعز في الدنيا، وبالجنة في العقبى.
الإشارة: اتخاذ الأماكن للعبادة والعزلة مطلوب عند القوم، وفي الحِكَم: (ما نفع القلبَ شيءٌ مثلُ عزلةٍ يدخل بها ميدان فكرة)، وأصلهم في ذلك: اعتزاله صلى الله عليه وسلم في غار حراء في مبدأ الوحي، فالخلوة للمريد لابد منها في ابتداء أمره، فإذا قوي نوره، ودخل مقام الفناء؛ صلح له حينئذٍ الخلطة مع الناس، بحيث يكون جسده مع الخلق وقلبه مع الحق، فإن لله رجالاً أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى. وقال بعضهم: الجَسدُ في الحانوت والقلب في الملكوت، فإذا رجع إلى البقاء لم يختَرْ حالاً على حال؛ لأنه مع الله على كل حال، وهذا من أقوياء الرجال. نفعنا الله بهم.

.تفسير الآيات (88- 89):

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}
قلت: اللام في {ليُضلوا} لام كي، متعلقة بآتيت محذوفة، أو بالمذكورة، ولفظ {ربنا} تكرار، أو تكون لام الأمر، فيكون دعاء عليهم بلفظ الأمر، بما علم من قرائن أحوالهم أنه لا يكون غيره. {فلا يؤمنوا}: جواب الدعاء أو عطف على {ليضلوا}.
يقول الحق جل جلاله: {وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأهُ زينةً}: ما يتزين به من الملابس والمراكب، ونحوها، {وأموالاً}: أنواعاً من المال {في الحياة الدنيا} استدراجاً، {ربنا} آتيتهم ذلك {ليُضلوا عن سبيلك} طغياناً وبطراً بها، وصرفها في غير محلها، أو ربنا اجعلهم ضالين في سبيلك، كقول نوح عليه السلام {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح: 24] لما أيس من إيمانهم، {ربنا اطمسْ على أموالهم} أي: أهلكها وامحقها، {واشْدُدْ على قلوبهم} بالقسوة، واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان، {فلا يؤمنوا حتى يَرَوا العذابَ الأليم} أي: إن تطمس على أموالهم وتشدد على قلوبهم لا يؤمنوا إلا قهراً.
وفي الآية دليل على جواز الدعاء على الظالم بالمعصية، أو الكفر، وقد فعله سعد بن أبي وقاص على الذي شهد فيه بالباطل، ووجْهُ جوازه مع استلزامه وقوع المعاصي: أنه لم يُعتبر من حيث تاديته إلى المعاصي، ولكن من حيث تأديته إلى نِكاية الظالم وعقوبته، وهذا كما قيل في تمني الشهادة أنه مشروع، وإن كان يؤدي إلى قتل الكافر للمسلم، وهو معصية ووهن في الدين، ولكن الغرض من تمنى الشهادة ثوابُها، لا نفسها.
{قال} تعالى: {قد أجيَبت دعوتُكما} يعني موسى وهارون، وكان يُؤمِّن على دعاء أخيه، {فاستقيما} أي: اثبتا على ما أنتما عليه من الاستقامة والدعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا، فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته، روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة، {ولا تتبعانِّ سبيلَ الذين لا يعلمون}: طريق الجهلة في استعجال الأشياء قبل وقتها، أو في عدم الوثوق والاطمئنان بوعدنا، وقرأ ابن ذكوان: {ولا تتبعان} بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، وهو قليل، قال ابن مالك:
وَلم تَقَعْ خَفِيفَةٌ بَعدَ الأَلفْ

ويحتمل أن تكون نون الرفع، ولا نافية، أي: والأمر لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون.
الإشارة: دعاء الأولياء على الظالم مشروع بعد الإذن الإلهامي على ما يفهمونه، وقد مكث الشيخ أبو الحسن سنين لم يدع على ابن البراء حتى كان سنة في عرفة، فقال: الآن أًذن لي في الدعاء على ابن البراء... إلخ فإن لم يكن إذن فالصبر أوْلى، بل الأولى الدعاء له بالهداية، حتى يأخذ الله بيده؛ وهذا مقام الصديقين، فإذا وقع الدعاء مطلقاً وتأخرت الإجابة فلا يستعجل، فيكون تبع سبيل الذين لا يعلمون، وفي الحكم: (لا يكن تأخرُ أمدِ العطاءِ مع الإلحاحِ في الدعاء موجباً ليأسك، فقد ضمن لك الإحابة فيما يختار لك لا فيما تختار أنت لنفسك، وفي الوقت الذين يريد، لا في الوقت الذي تريد)، وقال أيضاً: (لا يشككنَّك في الوعد عدم وقوع الموعود وإن تعين زمنه؛ لئلا يكون ذلك قَدْحاً في بصيرتك، وإخماداً لنور سريرتك). وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (90- 92):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}
قلت: {فأتبعهم} أي: تبعهم، يقال: تبع وأتبع لغتان.
يقول الحق جل جلاله: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحرَ} أي: جوزناهم في البحر يبساً؛ حتى بلغوا الشط الآخر حافظين لهم. رُوي أن بني إسرائيل حين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب عليه السلام قد دخل مصر في نيف وسبعين من ذريته، فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور.
{فأتْبعهم}: فأدركهم {فرعونُ وجنودُه}، رُوي أنهم كانوا ثمانمائة ألف أدهم، سوى ما يناسبها من أواسط الخيل. تبعهم {بغياً وعَدْواً}: باغين وعادين عليهم. مستمراً على بغيه {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنتُ أنه} أي: بأنه {لا إله إلا الذي آمنتْ به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}، فآمن حين لا ينفع الإيمان بمعانية الموت، ومن قال بصحة إيمانه فغلطٌ، كالحاتمي فإنه قال في الفصوص: إنه من الناجين، وذلك من جملة هفواته.
قال تعالى لفرعون: {الآن} أي: أتؤمن الآن، وقد أيست من نفسك، {وقد عَصَيْتَ قَبْلُ} مدة عمرك {وكنتَ من المفسدين}: الضالين المضلين، {فاليوم نُنَجِّيك} أي: ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر، ونجعلك طافياً على وجه الماء، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك الناس، فيتحققوا بغرق من معك حال كونك {ببدنك} عارياً عن الروح، أو عرياناً بلا لباس، أو بدرعك، وكانت له دُروع من ذهب يعرف بها، وكان مظاهراً بينها.
{لتكونَ لمنَ خَلْفِكَ آيةً}: لمن وراءك علامة يعرفون أنك من الهالكين، والمراد: بنو إسرائيل؛ إذ كان نفوسهم من عظمته ما خيّل إليهم أنه لا يهلك حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه، إلى أن عاينوه منطرحاً على ممرهم من الساحل، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل امرك، فيكون ذلك عبرة ونكالاً للطغْيان، أوْ حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظيم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور، بعيد عن مظانِّ الربوبية، أو آية تدل على كمال قدرته وإحاطة علمه وحكمته، فإن إفراده بالإلقاء إلى الساحل دون غيره؛ يفيد أنه مقصود لإزاحة الشك في أمره.
{وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون}؛ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، والإخبار بهذا الأخذ الذي وقع في قعر البحر من أعلام النبوة؛ إذ لا يمكن أن يخبر بها إلا عَلاَّم الغيوب الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يخلو منه مكان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من دخل بحر التوحيد علماً وهو فرعون برؤية نفسه، ولم يصحب من يغيبُه عنها غرق في بحر الزندقة والدعوى، فإن رجع إلى الإيمان بعد معاينة الهلاك بسيف الشريعة قيل له: الآن وقد عصيت قبلُ وكنتَ من المفسدين؟ فإن تاب حقيقة رجى له النجاة، وإن قتل كان آية ونكالاً لمن خلفه. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (93):

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}
قلت: {مُبوَّأ}: ظرف بمعنى منزل.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد بوأنا} أي: أنزلنا {بني إسرائيل مُبَوَّأ صِدْقٍ} أي: منزل صدق، أي: منزلاً صالحاً مرضياً يصدق فيه ظن قاصده وساكنه، فما ظن فيه من الكمالات وجدها صدقاً وحقاً، والمراد به: الشام وقراها، {ورزقناهم من الطيبات} من اللذائذ، وكانوا متفقين على دينهم، وعلى ظهور دين الإسلام، {فما اختلفوا} في أمر دينهم {حتى جاءهم العلم}؛ بأن قرؤوا التوارة وعلموا أحكامها، ثم طغوا وعصوا، أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته، وتظاهر معجزاته، {إن ربك يقتضي بينهم يومَ القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}، فيميز المحقَّ من المبطل بالإنجاء والإهلاك.
الإشارة: قد يمد الله عباده بأنواع النعم، ثم يبعث لهم من يذكرهم بأيام الله، ويعرفهم به، فإذا اختلفوا عليه ظهر الشاكر من غيره، فيغير عليهم تلك النعم، فيوصل إليه أهل التصديق والاستماع والاتباع، ويبعد أهل الإنكار والابتداع. وبالله التوفيق. رضي الله عنه.

.تفسير الآيات (94- 95):

{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)}
يقول الحق جل جلاله: {فإن كنتَ} يا محمد {في شكٍ مما أنزلنا إليك فاسألِ الذين يقرؤون من قَبلِكَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد به: من وقع له شك، فإن الملك إذا إراد أن يُعرض بأحد؛ خاطب كبير القوم وهو يريد غيره، فهو كقول العامة: الكلام مع السارية وافهمي يا جارية.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو بعيد من الشك؛ لأنه عين اليقين، وهو الذي علَّم الناس اليقين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت: «لا أشُكُ وَلاَ أَسأَل» والمراد بالذين يقرؤون الكتاب: من أسلم منهم، كعبد الله بن سلام وغيره، أو فإن كنت أيها المستمع في شك مما أنزلنا إليك على لسان فاسأل... إلخ، وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها، بالرجوع إلى أهل اليقين إن كانت في التوحيد، أو إلى أهل العلم إن كانت في الفروع.
قال ابن عطية: الخواطر التي لا ينجو منها أحد، هي خلاف الشك الذي يحال فيه على الاستشفاء بالسؤال. اهـ. أي: فإنها معفوّ عنها.
ثم قال تعالى: {لقد جاءك الحقُّ من ربك} واضحاً لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة {فلا تكوننَّ من الممتَرين}: الشاكِّين بالتزلزل على ما أنت عليه من الجزم واليقين، {ولا تكوننَّ من الذين كذَّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين}، وهذا كله يجري على ما تقدم من أنه لكل سامع. وقال البيضاوي: هو من باب التهييج والتثبيت، وقطع الأطماع عنه، كقوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ} [القصص: 86]. اهـ.
الإشارة: لا تنقطع عن العبد الأوهام والشكوك والخواطر، حتى يدخل مقام الإحسان، ويكاشف بمقام الشهود والعيان، بالغيبة عن حس الأكوان، بسطوع أنوار المعاني عند غيبة الأواني، ومن غاب عن حس نفسه غاب عنه حس جميع الأكوان؛ وذلك بصحبة أهل العرفان، الذين سلكوا الطريق حتى أفضوا إلى عين التحقيق، فزاحت عنهم الشكوك والأوهام، وانحلت عنهم الشُّبَه، وزالت عن قلوبهم الأسقام، واطلعوا على تاويل المتشابه من القرآن، فبصحبة هؤلاء ترتفع الخواطر والشكوك، ويرتفع العبد إلى حضرة ملك الملوك، فجلوس ساعة مع هؤلاء تعدل عبادة سنين. وفي بعض الآثار: (تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين) قلت: وقد مَنَّ الله علينا بمعرفتهم وصحبتهم، بعد أن تحققنا بخصوصيتهم، فللّه الحمد وله الشكر.